الصيام في اللغة: الإمساك يقال: صام النهار إذا وقف سير الشمس قال الله تعالى إخبارا عن مريم: {إني نذرت للرحمن صوما} أي صمتا لأنه إمساك عن الكلام, وقال الشاعر:
خيل صيام وخيل غير صائمة ** تحت العجاج وأخرى تعلك اللجما
يعني بالصائمة: الممسكة عن الصهيل والصوم في الشرع: عبارة عن الإمساك عن أشياء مخصوصة في وقت مخصوص يأتي بيانه -إن شاء الله تعالى- وصوم رمضان واجب, والأصل في وجوبه الكتاب والسنة والإجماع أما الكتاب فقول الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم} إلى قوله: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} وأما السنة فقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (بني الإسلام على خمس) ذكر منها صوم رمضان, وعن طلحة بن عبيد الله (أن رجلا جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ثائر الرأس فقال: يا رسول الله أخبرني ماذا فرض الله علي من الصيام؟ قال: شهر رمضان قال: هل علي غيره؟ قال: لا إلا أن تطوع شيئا قال: فأخبرني ماذا فرض الله علي من الزكاة؟ فأخبره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بشرائع الإسلام قال: والذي أكرمك لا أتطوع شيئا, ولا أنقص مما فرض الله علي شيئا فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: أفلح إن صدق أو دخل الجنة إن صدق) متفق عليهما وأجمع المسلمون على وجوب صيام شهر رمضان.
فصل: حذف التشكيل
روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة) متفق عليه وروي عن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (لا تقولوا جاء رمضان فإن رمضان اسم من أسماء الله تعالى) فيتعين حمل هذا على أنه لا يقال ذلك غير مقترن بما يدل على إرادة الشهر لئلا يخالف الأحاديث الصحيحة والمستحب مع ذلك أن يقول: شهر رمضان, كما قال الله تعالى: {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن} واختلف في المعنى الذي لأجله سمي رمضان فروى أنس عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (إنما سمي رمضان لأنه يحرق الذنوب) فيحتمل أنه أراد أنه شرع صومه دون غيره ليوافق اسمه معناه وقيل: هو اسم موضوع لغير معنى, كسائر الشهور وقيل غير ذلك.
فصل: حذف التشكيل
والصوم المشروع هو الإمساك عن المفطرات من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس روي معنى ذلك عن عمر, وابن عباس وبه قال عطاء وعوام أهل العلم وروي عن علي رضي الله عنه, أنه لما صلى الفجر قال: الآن حين تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود وعن ابن مسعود نحوه وقال مسروق: لم يكونوا يعدون الفجر فجركم إنما كانوا يعدون الفجر الذي يملأ البيوت والطرق وهذا قول الأعمش ولنا قول الله تعالى: {حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر} يعني بياض النهار من سواد الليل وهذا يحصل بطلوع الفجر قال ابن عبد البر في قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إن بلالا يؤذن بليل, فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم) دليل على أن الخيط الأبيض هو الصباح وأن السحور لا يكون إلا قبل الفجر وهذا إجماع لم يخالف فيه إلا الأعمش وحده فشذ ولم يعرج أحد على قوله والنهار الذي يجب صيامه من طلوع الفجر إلى غروب الشمس قال: هذا قول جماعة علماء المسلمين .
مسألة: حذف التشكيل
قال أبو القاسم, -رحمه الله-: [ وإذا مضى من شعبان تسعة وعشرون يوما طلبوا الهلال فإن كانت السماء مصحية لم يصوموا ذلك اليوم ] وجملة ذلك أنه يستحب للناس ترائي الهلال ليلة الثلاثين من شعبان, وتطلبه ليحتاطوا بذلك لصيامهم ويسلموا من الاختلاف وقد روى الترمذي عن أبي هريرة, أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (أحصوا هلال شعبان لرمضان) فإذا رأوه وجب عليهم الصيام إجماعا وإن لم يروه وكانت السماء مصحية لم يكن لهم صيام ذلك اليوم, إلا أن يوافق صوما كانوا يصومونه مثل من عادته صوم يوم وإفطار يوم أو صوم يوم الخميس, أو صوم آخر يوم من الشهر وشبه ذلك إذا وافق صومه أو من صام قبل ذلك بأيام, فلا بأس بصومه لما روى أبو هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (لا يتقدمن أحدكم رمضان بصيام يوم أو يومين إلا أن يكون رجل كان يصوم صياما فليصمه) متفق عليه وقال عمار: (من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم -صلى الله عليه وسلم-) قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح وكره أهل العلم صوم يوم الشك واستقبال رمضان باليوم واليومين لنهي النبي -صلى الله عليه وسلم- عنه وحكي عن القاسم بن محمد, أنه سئل عن صيام آخر يوم من شعبان هل يكره؟ قال: لا إلا أن يغمى الهلال واتباع قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أولى فأما استقبال الشهر بأكثر من يومين فغير مكروه, فإن مفهوم حديث أبي هريرة أنه غير مكروه لتخصيصه النهي باليوم واليومين وقد روى العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة, أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (إذا كان النصف من شعبان فأمسكوا عن الصيام حتى يكون رمضان) قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح إلا أن أحمد قال: ليس هو بمحفوظ قال: وسألنا عنه عبد الرحمن بن مهدي, فلم يصححه ولم يحدثني به وكان يتوقاه قال أحمد: والعلاء ثقة لا ينكر من حديثه إلا هذا لأنه خلاف ما روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه كان يصل شعبان برمضان ويحمل هذا الحديث على نفي استحباب الصيام في حق من لم يصم قبل نصف الشهر, وحديث عائشة في صلة شعبان برمضان في حق من صام الشهر كله فإنه قد جاء ذلك في سياق الخبر فلا تعارض بين الخبرين إذا, وهذا أولى من حملهما على التعارض ورد أحدهما بصاحبه والله أعلم وفي كلام الخرقي اختصار وتقديره: طلبوا الهلال, فإن رأوه صاموا وإن لم يروه وكانت السماء مصحية لم يصوموا فحذف بعض الكلام للعلم به اختصارا.
فصل: حذف التشكيل
ويستحب لمن رأى الهلال أن يقول ما روى ابن عمر قال: (كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا رأى الهلال قال: الله أكبر, اللهم أهله علينا بالأمن والإيمان والسلامة والإسلام والتوفيق لما تحب وترضى, ربي وربك الله) رواه الأثرم.
فصل: حذف التشكيل
وإذا رأى الهلال أهل بلد لزم جميع البلاد الصوم وهذا قول الليث وبعض أصحاب الشافعي وقال بعضهم: إن كان بين البلدين مسافة قريبة, لا تختلف المطالع لأجلها كبغداد والبصرة لزم أهلهما الصوم برؤية الهلال في أحدهما وإن كان بينهما بعد, كالعراق والحجاز والشام فلكل أهل بلد رؤيتهم وروي عن عكرمة أنه قال: لكل أهل بلد رؤيتهم وهو مذهب القاسم, وسالم وإسحاق لما روى كريب قال: (قدمت الشام, واستهل علي هلال رمضان وأنا بالشام فرأينا الهلال ليلة الجمعة, ثم قدمت المدينة في آخر الشهر فسألني ابن عباس ثم ذكر الهلال, فقال: متى رأيتم الهلال؟ قلت: رأيناه ليلة الجمعة فقال: أنت رأيته ليلة الجمعة؟ قلت: نعم ورآه الناس وصاموا, وصام معاوية فقال: لكن رأيناه ليلة السبت فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه فقلت: ألا تكتفي برؤية معاوية وصيامه؟ فقال: لا هكذا أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-) قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب ولنا قول الله تعالى: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} (وقول النبي -صلى الله عليه وسلم- للأعرابي لما قال له: الله أمرك أن تصوم هذا الشهر من السنة؟ قال: نعم) وقوله للآخر لما قال له: ماذا فرض الله علي من الصوم؟ قال: (شهر رمضان) وأجمع المسلمون على وجوب صوم شهر رمضان, وقد ثبت أن هذا اليوم من شهر رمضان بشهادة الثقات فوجب صومه على جميع المسلمين ولأن شهر رمضان ما بين الهلالين, وقد ثبت أن هذا اليوم منه في سائر الأحكام من حلول الدين ووقوع الطلاق والعتاق, ووجوب النذور وغير ذلك من الأحكام فيجب صيامه بالنص والإجماع, ولأن البينة العادلة شهدت برؤية الهلال فيجب الصوم كما لو تقاربت البلدان فأما حديث كريب فإنما دل على أنهم لا يفطرون بقول كريب وحده, ونحن نقول به وإنما محل الخلاف وجوب قضاء اليوم الأول وليس هو في الحديث فإن قيل: فقد قلتم إن الناس إذا صاموا بشهادة واحد ثلاثين يوما, ولم يروا الهلال أفطروا في أحد الوجهين قلنا: الجواب عن هذا من وجهين أحدهما أننا إنما قلنا يفطرون إذا صاموا بشهادته, فيكون فطرهم مبنيا على صومهم بشهادته وهاهنا لم يصوموا بقوله فلم يوجد ما يجوز بناء الفطر عليه الثاني, أن الحديث دل على صحة الوجه الآخر.
مسألة: حذف التشكيل
قال: [ وإن حال دون منظره غيم أو قتر وجب صيامه وقد أجزأ إذا كان من شهر رمضان ] اختلفت الرواية عن أحمد -رحمه الله- في هذه المسألة, فروي عنه مثل ما نقل الخرقي اختارها أكثر شيوخ أصحابنا وهو مذهب عمر, وابنه وعمرو بن العاص وأبي هريرة, وأنس ومعاوية وعائشة, وأسماء بنتي أبي بكر وبه قال بكر بن عبد الله وأبو عثمان النهدي, وابن أبي مريم ومطرف وميمون بن مهران, وطاوس ومجاهد وروي عنه أن الناس تبع للإمام فإن صام صاموا, وإن أفطر أفطروا وهذا قول الحسن وابن سيرين لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (الصوم يوم تصومون, والفطر يوم تفطرون والأضحى يوم تضحون) قيل معناه أن الصوم والفطر مع الجماعة ومعظم الناس قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب وعن أحمد رواية ثالثة: لا يجب صومه, ولا يجزئه عن رمضان إن صامه وهو قول أكثر أهل العلم منهم أبو حنيفة ومالك والشافعي, ومن تبعهم لما روى أبو هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته, فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين) رواه البخاري وعن ابن عمر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته, فإن غم عليكم فاقدروا له ثلاثين) رواه مسلم وقد صح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- (نهى عن صوم يوم الشك) متفق عليه وهذا يوم شك ولأن الأصل بقاء شعبان فلا ينتقل عنه بالشك ولنا ما روى نافع عن ابن عمر, قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إنما الشهر تسع وعشرون فلا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه فإن غم عليكم فاقدروا له) قال نافع: كان عبد الله بن عمر إذا مضى من شعبان تسعة وعشرون يوما, بعث من ينظر له الهلال فإن رأى فذاك وإن لم ير ولم يحل دون منظره سحاب ولا قتر أصبح مفطرا, وإن حال دون منظره سحاب أو قتر أصبح صائما رواه أبو داود ومعنى اقدروا له: أي ضيقوا له العدد من قوله تعالى: {ومن قدر عليه رزقه} أي ضيق عليه وقوله: {يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر} والتضييق له أن يجعل شعبان تسعة وعشرين يوما وقد فسره ابن عمر بفعله وهو راويه وأعلم بمعناه, فيجب الرجوع إلى تفسيره كما رجع إليه في تفسير التفرق في خيار المتبايعين وروي عن عمر رضي الله عنه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (قال لرجل: هل صمت من سرر شعبان شيئا؟ قال: لا وفي لفظ: أصمت من سرر هذا الشهر شيئا؟ قال: لا قال: فإذا أفطرت فصم يومين) متفق عليه وسرر الشهر: آخره ليال يستتر الهلال فلا يظهر ولأنه شك في أحد طرفي الشهر لم يظهر فيه أنه من غير رمضان, فوجب الصوم كالطرف الآخر قال علي وأبو هريرة وعائشة: لأن أصم يوما من شعبان, أحب إلي من أن أفطر يوما من رمضان ولأن الصوم يحتاط له ولذلك وجب الصوم بخبر واحد ولم يفطر إلا بشهادة اثنين فأما خبر أبي هريرة الذي احتجوا به, فإنه يرويه محمد بن زياد وقد خالفه سعيد بن المسيب فرواه عن أبي هريرة: (فإن غم عليكم فصوموا ثلاثين) وروايته أولى بالتقديم, لإمامته واشتهار عدالته وثقته, وموافقته لرأي أبي هريرة ومذهبه ولخبر ابن عمر الذي رويناه ورواية ابن عمر: (فاقدروا له ثلاثين) مخالفة للرواية الصحيحة المتفق عليها ولمذهب ابن عمر ورأيه والنهي عن صوم الشك محمول على حال الصحو, بدليل ما ذكرناه وفي الجملة لا يجب الصوم إلا برؤية الهلال أو كمال شعبان ثلاثين يوما, أو يحول دون منظر الهلال غيم أو قتر على ما ذكرنا من الخلاف فيه.
مسألة: حذف التشكيل
قال: [ ولا يجزئه صيام فرض حتى ينويه أي وقت كان من الليل ] وجملته أنه لا يصح صوم إلا بنية إجماعا فرضا كان أو تطوعا, لأنه عبادة محضة فافتقر إلى النية كالصلاة, ثم إن كان فرضا كصيام رمضان في أدائه أو قضائه والنذر والكفارة اشترط أن ينويه من الليل عند إمامنا ومالك, والشافعي وقال أبو حنيفة: يجزئ صيام رمضان وكل صوم متعين بنية من النهار لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أرسل غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار التي حول المدينة: (من كان أصبح صائما فليتم صومه ومن كان أصبح مفطرا فليصم بقية يومه, ومن لم يكن أكل فليصم) متفق عليه وكان صوما واجبا متعينا ولأنه غير ثابت في الذمة فهو كالتطوع، ولنا ما روي ابن جريج وعبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن الزهري, عن سالم عن أبيه عن حفصة, عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (من لم يبيت الصيام من الليل فلا صيام له) وفي لفظ ابن حزم: (من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له) أخرجه النسائي, وأبو داود والترمذي وروى الدارقطني بإسناده عن عمرة عن عائشة, عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (من لم يبيت الصيام قبل طلوع الفجر فلا صيام له) وقال: إسناده كلهم ثقات وقال في حديث حفصة: رفعه عبد الله بن أبي بكر عن الزهري, وهو من الثقات الرفعاء ولأنه صوم فرض فافتقر إلى النية من الليل كالقضاء فأما صوم عاشوراء, فلم يثبت وجوبه فإن معاوية قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (هذا يوم عاشوراء ولم يكتب الله عليكم صيامه, وأنا صائم فمن شاء فليصم ومن شاء فليفطر) متفق عليه فلو كان واجبا لم يبح فطره, فإنما سمى الإمساك صياما تجوزا بدليل قوله: (ومن كان أصبح مفطرا فليصم بقية يومه) ولم يفرق بين المفطر بالأكل وغيره وقد روى البخاري, أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمر رجلا: أن أذن في الناس (أن من كان أكل فليصم بقية يومه) وإمساك بقية اليوم بعد الأكل ليس بصيام شرعي وإنما سماه صياما تجوزا ثم لو ثبت أنه صيام فالفرق بين ذلك وبين رمضان أن وجوب الصيام تجدد في أثناء النهار, فأجزأته النية حين تجدد الوجوب كمن كان صائما تطوعا فنذر إتمام صوم بقية يومه, فإنه تجزئه نيته عند نذره بخلاف ما إذا كان النذر متقدما والفرق بين التطوع والفرض من وجهين: أحدهما, أن التطوع يمكن الإتيان به في بعض النهار بشرط عدم المفطرات في أوله بدليل قوله عليه السلام في حديث عاشوراء: (فليصم بقية يومه) فإذا نوى صوم التطوع من النهار كان صائما بقية النهار دون أوله, والفرض يكون واجبا في جميع النهار ولا يكون صائما بغير النية والثاني أن التطوع سومح في نيته من الليل تكثيرا له, فإنه قد يبدو له الصوم في النهار فاشتراط النية في الليل يمنع ذلك فسامح الشرع فيها, كمسامحته في ترك القيام في صلاة التطوع وترك الاستقبال فيه في السفر تكثيرا له بخلاف الفرض إذا ثبت هذا ففي أي جزء من الليل نوى أجزأه, وسواء فعل بعد النية ما ينافي الصوم من الأكل والشرب والجماع أم لم يفعل واشترط بعض أصحاب الشافعي أن لا يأتي بعد النية بمناف للصوم واشترط بعضهم وجود النية في النصف الأخير من الليل كما اختص أذان الصبح والدفع من مزدلفة به ولنا مفهوم قوله عليه السلام: (لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل) من غير تفصيل, ولأنه نوى من الليل فصح صومه كما لو نوى في النصف الأخير ولم يفعل ما ينافي الصوم, ولأن تخصيص النية بالنصف الأخير يفضي إلى تفويت الصوم لأنه وقت النوم وكثير من الناس لا ينتبه فيه ولا يذكر الصوم, والشارع إنما رخص في تقديم النية على ابتدائه لحرج اعتبارها عنده فلا يخصها بمحل لا تندفع المشقة بتخصيصها به, ولأن تخصيصها بالنصف الأخير تحكم من غير دليل ولا يصح اعتبار الصوم بالأذان والدفع من مزدلفة لأنهما يجوزان بعد الفجر فلا يفضي منعهما في النصف الأول إلى فواتهما, بخلاف نية الصوم ولأن اختصاصهما بالنصف الأخير بمعنى تجويزهما فيه واشتراط النية بمعنى الإيجاب والتحتم, وفوات الصوم بفواتها فيه وهذا فيه مشقة ومضرة بخلاف التجويز, ولأن منعهما في النصف الأول لا يفضي إلى اختصاصهما بالنصف الأخير لجوازهما بعد الفجر والنية بخلافه, فأما إن فسخ النية مثل إن نوى الفطر بعد نية الصيام لم تجزئه تلك النية المفسوخة, لأنها زالت حكما وحقيقة.
فصل: حذف التشكيل
وإن نوى من النهار صوم الغد لم تجزئه تلك النية إلا أن يستصحبها إلى جزء من الليل وقد روى ابن منصور, عن أحمد من نوى الصوم عن قضاء رمضان بالنهار ولم ينو من الليل, فلا بأس إلا أن يكون فسخ النية بعد ذلك فظاهر هذا حصول الإجزاء بنيته من النهار إلا أن القاضي قال: هذا محمول على أنه استصحب النية إلى جزء من الليل وهذا صحيح لظاهر قوله عليه السلام: (لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل) ولأنه لم ينو عند ابتداء العبادة, ولا قريبا منها فلم يصح كما لو نوى من الليل صوم بعد غد.
فصل: حذف التشكيل
وتعتبر النية لكل يوم وبهذا قال أبو حنيفة, والشافعي وابن المنذر وعن أحمد أنه تجزئه نية واحدة لجميع الشهر إذا نوى صوم جميعه وهذا مذهب مالك, وإسحاق لأنه نوى في زمن يصلح جنسه لنية الصوم فجاز كما لو نوى كل يوم في ليلته ولنا أنه صوم واجب, فوجب أن ينوي كل يوم من ليلته كالقضاء ولأن هذه الأيام عبادات لا يفسد بعضها بفساد بعض ويتخللها ما ينافيها, فأشبهت القضاء وبهذا فارقت اليوم الأول وعلى قياس رمضان إذا نذر صوم شهر بعينه فيخرج فيه مثل ما ذكرناه في رمضان .
فصل: حذف التشكيل
ومعنى النية القصد, وهو اعتقاد القلب فعل شيء وعزمه عليه من غير تردد, فمتى خطر بقلبه في الليل أن غدا من رمضان وأنه صائم فيه فقد نوى وإن شك في أنه من رمضان ولم يكن له أصل يبني عليه, مثل أن يكون ليلة الثلاثين من شعبان ولم يحل دون مطلع الهلال غيم ولا قتر فعزم أن يصوم غدا من رمضان, لم تصح النية ولا يجزئه صيام ذلك اليوم لأن النية قصد تتبع العلم, وما لا يعلمه ولا دليل على وجوده ولا هو على ثقة من اعتقاده لا يصح قصده وبهذا قال حماد وربيعة ومالك, وابن أبي ليلى والحسن بن صالح وابن المنذر وقال الثوري, والأوزاعي: يصح إذا نواه من الليل لأنه نوى الصيام من الليل فصح كاليوم الثاني وعن الشافعي كالمذهبين ولنا أنه لم يجزم النية بصومه من رمضان, فلم يصح كما لو لم يعلم إلا بعد خروجه وكذلك لو بنى على قول المنجمين وأهل المعرفة بالحساب فوافق الصواب, لم يصح صومه وإن كثرت إصابتهم لأنه ليس بدليل شرعي يجوز البناء عليه, ولا العمل به فكان وجوده كعدمه قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (صوموا لرؤيته, وأفطروا لرؤيته) وفي رواية: (لا تصوموا حتى تروه ولا تفطروا حتى تروه) فأما ليلة الثلاثين من رمضان فتصح نيته, وإن احتمل أن يكون من شوال لأن الأصل بقاء رمضان وقد أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بصومه بقوله: (ولا تفطروا حتى تروه) لكن إن قال: إن كان غدا من رمضان فأنا صائم, وإن كان من شوال فأنا مفطر فقال ابن عقيل لا يصح صومه: لأنه لم يجزم بنية الصيام والنية اعتقاد جازم ويحتمل أن يصح لأن هذا شرط واقع والأصل بقاء رمضان .
فصل: حذف التشكيل
ويجب تعيين النية في كل صوم واجب, وهو أن يعتقد أنه يصوم غدا من رمضان أو من قضائه أو من كفارته, أو نذره نص عليه أحمد في رواية الأثرم فإنه قال: قلت لأبي عبد الله: أسير صام في أرض الروم شهر رمضان, ولا يعلم أنه رمضان ينوي التطوع؟ قال: لا يجزئه إلا بعزيمة أنه من رمضان ولا يجزئه في يوم الشك إذا أصبح صائما وإن كان من رمضان إلا بعزيمة من الليل أنه من رمضان وبهذا قال مالك, والشافعي وعن أحمد رواية أخرى أنه لا يجب تعيين النية لرمضان فإن المروذي روى عن أحمد, أنه قال: يكون يوم الشك يوم غيم إذا أجمعنا على أننا نصبح صياما يجزئنا من رمضان وإن لم نعتقد أنه من رمضان؟ قال: نعم قلت فقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إنما الأعمال بالنيات) أليس يريد أن ينوي أنه من رمضان؟ قال: لا إذا نوى من الليل أنه صائم أجزأه وحكى أبو حفص العكبري, عن بعض أصحابنا أنه قال: ولو نوى نفلا وقع عنه رمضان وصح صومه وهذا قول أبي حنيفة وقال بعض أصحابنا: ولو نوى أن يصوم تطوعا ليلة الثلاثين من رمضان فوافق رمضان أجزأه قال القاضي: وجدت هذا الكلام اختيارا لأبي القاسم, ذكره في "شرحه" وقال أبو حفص: لا يجزئه إلا أن يعتقد من الليل بلا شك ولا تلوم فعلى القول الثاني: لو نوى في رمضان الصوم مطلقا أو نوى نفلا, وقع عن رمضان وصح صومه وهذا قول أبي حنيفة إذا كان مقميا لأنه فرض مستحق في زمن بعينه فلا يجب تعيين النية له, كطواف الزيارة ولنا أنه صوم واجب فوجب تعيين النية له كالقضاء وطواف الزيارة, كمسألتنا في افتقاره إلى التعيين فلو طاف ينوي به الوداع أو طاف بنية الطواف مطلقا, لم يجزئه عن طواف الزيارة ثم الحج مخالف للصوم ولهذا ينعقد مطلقا وينصرف إلى الفرض ولو حج عن غيره, ولم يكن حج عن نفسه وقع عن نفسه ولو نوى الإحرام بمثل ما أحرم به فلان صح, وينعقد فاسدا بخلاف الصوم.
فصل: حذف التشكيل
ولو نوى ليلة الشك إن كان غدا من رمضان فأنا صائم, فرضا وإلا فهو نفل لم يجزئه على الرواية الأولى لأنه لم يعين الصوم من رمضان جزما, ويجزئه على الأخرى لأنه قد نوى الصوم ولو كان عليه صوم من سنة خمس فنوى أنه يصوم عن سنة ست أو نوى الصوم عن يوم الأحد, وكان الاثنين أو ظن أن غدا الأحد فنواه, وكان الاثنين صح صومه لأن نية الصوم لم تختل وإنما أخطأ في الوقت.
فصل: حذف التشكيل
وإذا عين النية عن صوم رمضان, أو قضائه أو كفارة أو نذر لم يحتج أن ينوي كونه فرضا وقال ابن حامد: يجب ذلك وقد مر بيان ذلك في الصلاة.
مسألة: حذف التشكيل
قال: [ ومن نوى صيام التطوع من النهار, ولم يكن طعم أجزأه ] وجملة ذلك أن صوم التطوع يجوز بنية من النهار عند إمامنا, وأبي حنيفة والشافعي وروي ذلك عن أبي الدرداء وأبي طلحة وابن مسعود, وحذيفة وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير, والنخعي وأصحاب الرأي وقال مالك وداود: لا يجوز إلا بنية من الليل لقوله عليه السلام: (لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل) ولأن الصلاة يتفق وقت النية لفرضها ونفلها, فكذلك الصوم ولنا ما روت عائشة رضي الله عنها (قالت: دخل عليَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- ذات يوم فقال: هل عندكم من شيء؟ قلنا: لا قال: فإني إذا صائم) أخرجه مسلم, وأبو داود والنسائي ويدل عليه أيضا حديث عاشوراء ولأن الصلاة يخفف نفلها عن فرضها بدليل أنه لا يشترط القيام لنفلها, ويجوز في السفر على الراحلة إلى غير القبلة فكذا الصيام وحديثهم نخصه بحديثنا على أن حديثنا أصح من حديثهم, فإنه من رواية ابن لهيعة ويحيى بن أيوب قال الميموني: سألت أحمد عنه, فقال: أخبرك ما له عندي ذلك الإسناد إلا أنه عن ابن عمر وحفصة إسنادان جيدان والصلاة يتفق وقت النية لنفلها وفرضها لأن اشتراط النية في أول الصلاة لا يفضي إلى تقليلها, بخلاف الصوم فإنه يعين له الصوم من النهار فعفي عنه كما لو جوزنا التنفل قاعدا وعلى الراحلة, لهذه العلة.
فصل: حذف التشكيل
وأي وقت من النهار نوى أجزأه سواء في ذلك ما قبل الزوال وبعده هذا ظاهر كلام أحمد والخرقي وهو ظاهر قول ابن مسعود فإنه قال: أحدكم بأخير النظرين ما لم يأكل أو يشرب وقال رجل لسعيد بن المسيب: إني لم آكل إلى الظهر, أو إلى العصر أفأصوم بقية يومي؟ قال: نعم واختار القاضي في "المحرر" أنه لا تجزئه النية بعد الزوال وهذا مذهب أبي حنيفة, والمشهور من قولي الشافعي لأن معظم النهار مضى من غير نية بخلاف الناوي قبل الزوال فإنه قد أدرك معظم العبادة, ولهذا تأثير في الأصول بدليل أن من أدرك الإمام قبل الرفع من الركوع أدرك الركعة لإدراكه معظمها ولو أدركه بعد الرفع, لم يكن مدركا لها ولو أدرك مع الإمام من الجمعة ركعة كان مدركا لها لأنها تزيد بالتشهد, ولو أدرك أقل من ركعة لم يكن مدركا لها ولنا أنه نوى في جزء من النهار فأشبه ما لو نوى في أوله, ولأن جميع الليل وقت لنية الفرض فكذا جميع النهار وقت لنية النفل إذا ثبت هذا فإنه يحكم له بالصوم الشرعي المثاب عليه من وقت النية في المنصوص عن أحمد, فإنه قال: من نوى في التطوع من النهار كتب له بقية يومه وإذا أجمع من الليل كان له يومه وهذا قول بعض أصحاب الشافعي وقال أبو الخطاب, في "الهداية": يحكم له بذلك من أول النهار وهو قول بعض أصحاب الشافعي لأن الصوم لا يتبعض في اليوم بدليل ما لو أكل في بعضه لم يجز له صيام باقيه, فإذا وجد في بعض اليوم دل على أنه صائم من أوله ولا يمتنع الحكم بالصوم من غير نية حقيقة كما لو نسي الصوم بعد نيته, أو غفل عنه ولأنه لو أدرك بعض الركعة أو بعض الجماعة كان مدركا لجميعها ولنا أن ما قبل النية لم ينو صيامه فلا يكون صائما فيه لقوله عليه السلام: (إنما الأعمال بالنيات, وإنما لكل امرئ ما نوى) ولأن الصوم عبادة محضة فلا توجد بغير نية كسائر العبادات المحضة ودعوى أن الصوم لا يتبعض, دعوى محل النزاع وإنما يشترط لصوم البعض أن لا توجد المفطرات في شيء من اليوم ولهذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث عاشوراء (فليصم بقية يومه) وأما إذا نسي النية بعد وجودها, فإنه يكون مستصحبا لحكمها بخلاف ما قبلها فإنها لم توجد حكما, ولا حقيقة ولهذا لو نوى الفرض من الليل ونسيه في النهار صح صومه, ولو لم ينو من الليل لم يصح صومه وأما إدراك الركعة والجماعة فإنما معناه أنه لا يحتاج إلى قضاء ركعة, وينوي أنه مأموم وليس هذا مستحيلا أما أن يكون ما صلى الإمام قبله من الركعات محسوبا له, بحيث يجزئه عن فعله فكلا ولأن مدرك الركوع مدرك لجميع أركان الركعة لأن القيام وجد حين كبر وفعل سائر الأركان مع الإمام وأما الصوم فإن النية شرط أو ركن فيه, فلا يتصور وجوده بدون شرطه وركنه إذا ثبت هذا فإن من شرطه أن لا يكون طعم قبل النية ولا فعل ما يفطره فإن فعل شيئا من ذلك, لم يجزئه الصيام بغير خلاف نعلمه.